كارثة ميونخ.. حين أهدى القدر لقب دوري الأبطال لريال مدريد

قال المتنبي في أحد قصائده التي نظمها منذ أكثر من 1000 عام “بذا قضت الأيام ما بين أهلها * مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد”، وهذا البيت الشعري يعبر تماماً عن كارثة ميونخ الجوية، والتي وقعت في 6 فبراير 1958 في مطار المدينة البافارية لطائرة الخطوط الجوية البريطانية التي كان على متنها فريق مانشستر يونايتد، وكان رفقته بعض الأنصار والصحفيين.

كان الفريق الإنجليزي عائداً من يوغوسلافيا حيث كان يلاقي فريق النجم الأحمر في إياب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا، ولعدم وجود طائرات قادرة على الوصول لإنجلترا مباشرةً وقتها، اضطرت الطائرة أن تهبط في مطار ميونخ لملء خزان الوقود ثم التحليق من جديد، وبالفعل هبط الطيار في المطار البافاري لكن طائرته تحطمت وهو يحاول الإقلاع بسبب كثرة الثلوج في المدرج.

في أبريل 1955 أطلق الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بطولة جديدة أسماها الكأس الأوروبية، وكانت فكرتها أن يتواجه كل أبطال الدوريات في أوروبا والفائز يحصد الكأس، وكانت البداية في موسم 1955-1956 وأرسل الويفا الدعوات للاتحادات الوطنية بما فيهم الاتحاد الإنجليزي، لكن رابطة الدوري في إنجلترا رفضت المشاركة في المسابقة الجديدة، وذلك حتى لا يرهق لاعبي الفريق المشارك في البطولة، ولأن سكرتير الاتحاد الإنجليزيي وقتها ألان هارداكر كان يرى أن البطولات المحلية أهم، وكان البطل في هذا الموسم تشيلسي فرضخ لأوامر هارداكر ولم يشترك في الكأس الأوروبية.

فاز مانشستر يونايتد بالدوري الإنجليزي في الموسم التالي، فوصلت له دعوة للمشاركة في كأس أوروبا موسم 1956-1957 ومرةً أخرى قررت رابطة الدوري الإنجليزي عدم المشاركة في البطولة الأوروبية، لكن رئيس الشياطين الحمر هارولد هاردمان ومدرب الفريق السير مات باسبي أصرا على الاشتراك في المسابقة، وبالفعل رضخت رابطة الأندية الإنجليزية لمطالبهم وأصبح فريق باسبي أول فريق إنجليزي يشارك في بطولة أوروبية.

كان باسبي يفضل الاعتماد على اللاعبين الشباب معظم الوقت، فسمي فريقه بصغار باسبي، وظهروا في مشاركتهم الأوروبية الأولى بصورةٍ رائعة، ووصل لنصف نهائي المسابقة وواجه حامل اللقب ريال مدريد الذي استطاع العبور للنهائي من خلالهم بعد فاز في إسبانيا بنتيجة (3-1)، وتعادل في إنجلترا بنتيجة (2-2).

لم يخرج فريق الشياطين الحمر من هذا الموسم خالي الوفاض، بل نجح في تحقيق ثنائية الدوري الإنجليزي وكأس الاتحاد، فتأهل للكأس الأوروبية موسم 1957-1958، وظهر بنفس المستوى الرائع الذي كان عليه في مشاركته الأولى، وكان بينه وبين البطولة القليل هذه المرة، لكن القدر تدخل وأبعده عن لقبه الأوروبي الأول.

بدأ مانشستر يونايتد الكأس الأوروبية بمواجهة شامروك روفرز الآيرلندي، وسحقة بنتيجة (9-2) كمجموع لمباراتي الذهاب والإياب، وفي الدور التالي قابل دوكلا براج التشيكي وانتصر عليه بمجموع نتائج (3-1)، وفي ربع النهائي واجه فريق باسبي النجم الأحمر، وانتصر عليه في لقاء الذهاب الذي كان في الأولد ترافورد بنتيجة (2-1)، ثم سافر لملاقاته في بيليجراد – مدينة الموت الأوروبية على مدى التاريخ – وتعادل معه بنتيجة (3-3)، وفي طريق عودة الشياطين الحمر لقواعدهم وقعت الكارثة.

بعد أن تعادل مانشستر يونايتد مع النجم الأحمر في يوغوسلافيا وضمن العبور لنصف النهائي أخذ طريق العودة للديار، ولأن الطائرات وقتها كانت غير قادرة على قطع هذه المسافة مباشرةً، اضطر طاقم الطائرة إليزابيثان للهبوط في ميونخ لملء خزان الوقود، وبعد انتهاء الغرض أخذ طاقم الطائرة الإذن من برج المراقبة بالإقلاع، وهذا الطاقم كان مكون من جيمس ثاين كقائد، وكينيث ريمينت كمساعد، وأخلي المدرج لإقلاع الطائرة بداية من الساعة 14:19 بتوقيت جرينيتش إلى الساعة 14:31.

بعد أن أخلي المدرج بدأ الطاقم عملية الإقلاع التي أوقفها ريمينت سريعاً بسبب سماعه صوتاً في المحرك الأيسر، وهذا الصوت كان يشير إلى زيادة ضغط المحرك، وكان هذا يؤدي إلى زيادة دفع الطائرة أكثر مما يجب.

أخذ طاقم إليزابيثان الإذن بمحاولة الإقلاع مرةً ثانية واستجاب برج المراقبة، وفي المحاولة الثانية حدث نفس الأمر فألغيت عملية الإقلاع مرةً أخرى، فقرر طاقم الطائرة إطفاء محركها وإعادة تشغيله من جديد، فطلب الكابتن جيمس ثاين من الركاب الخروج منها والذهاب إلى مبنى المسافرين وطلب منهم أيضاً عدم الابتعاد.

بعد نزول الركاب للاستراحة ذهب مهندس محطة الطيران بيل بلاك لطاقم الطائرة وسألهم “ما الأمر؟ لقد لاحظت توقف الطائرة أكثر من مرة”، فأجابه الطاقم بما يحدث وهو زيادة ضغط المحرك، فقال لهما “لا داعي للقلق هذا الأمر يحدث عادة في هذا الطراز، فقط عليكما أن تسيرا بالطائرة ببطء ثم تزيدا السرعة للقصوى”، وكان طول المدرج في ميونخ وقتها 2 كيلومتر فاعتقد ثاين أن المسافة كافية لهذا الأمر.

كان الجو بارداً جداً في مطار المدينة البافارية والثلوج تتهاطل، فاعتقد صغار باسبي أن الرحلة سوف تلغى وأنهم سيقضون ليلتهم في ألمانيا الغربية، لكن تم استدعاء الركاب للطائرة بعد ربع ساعة من تواجدهم في مبنى المسافرين، وبالفعل عاد أعضاء مانشستر يونايتد لإليزابيثان وهم ينظرون لبعضهم البعض في تخوف ورعب شديد، وكأن عيونهم تقول إن صعودنا على متن الطائرة يعد مقامرةً في هذه الأجواء، خصوصاً بعد فشلها في الإقلاع مرتين، وفي الطريق للعودة قال ليام ويلان أحد أفراد الشياطين الحمر “من الممكن أن نموت، لكنني مستعد”.

بمجرد عودة الركاب للطائرة ذهب ثاين لمقعد قيادته، فوجد ريمينت قد قام بتشغيل خاصية إذابة الثلج عن الأجنحة فقال له لا داعي لذلك فالثلوج ليست بكثيرة، وبعد أن أصبح كل شيئاً جاهزاً قام طاقم الطائرة بالتحرك نحو المدرج في 14:56، وبعد 3 دقائق وصلت الطائرة للمدرج وأخذ الطاقم الإذن بالإقلاع وحصل عليه بين 15:02 و15:04.

تأهب ثاين وريمينت لإقلاعهما الأخير، ونفذا مقترح بيل بلاك بالسير ببطء ثم زيادة السرعة حتى الوصول للسرعة القصوى، وبدا أن الأمر نجح في بادئ الأمر فزادا السرعة حتى وصلت ل217 كيلومتر / الساعة، وهذه السرعة لا يمكن إيقاف الطائرة عندها بسلام، وبعد ذلك بدأت سرعة الطائرة تقل تدريجياً فعجزت إليزابيث عن الطيران حتى انتهى المدرج، وهنا حاول ثاين إيقافها لكن الأوان كان قد فات.

انزلقت الطائرة في نهاية المدرج واصطدمت بسياج المطار واصطدمت بمنزل قريب منه، فتمزق جناحها وذيلها ثم اصطدمت مقدمتها بشجرة مجاورة لهذا المنزل، ومن حسن الحظ أن العائلة التي تسكن في البناية والمكونة من ستة أفراد كانوا بعيداً عن مكان الاصطدام، فلم يصب أحداً منهم بأي أذى.

انفجرت الطائرة بعد هذا الاصطدام المروع، وتوفي على إثر هذا الحادث 20 شخصاً في الحال، 7 منهم كانوا من صغار باسبي، وارتفع عدد الضحايا إلى 21 بعد وفاة فرانك سويفت الصحفي وحارس مانشستر سيتي السابق وهو في طريقه إلى المستشفى.

انتقل لاعب مانشستر يونايتد دانكان إدورادز إلى المشفى بعد إصابته، لكنه توفي في 21 فبراير أي بعد الحادث ب15 يوم، وآخر من توفي بسبب الحادث هو مساعد الطيار كين ريمينت الذي صمد 23 يوماً في المستشفى، لكنه توفي أخيراً ورفع عدد الوفيات إلى 23.

أصيب مات باسبي في الحادث إصابة بالغة، وقضى في المستشفى أكثر من شهرين، لكنه خرج منها بسلام على عكس صغيريه جوني بيري وجاكي بلانشفلاور اللذين منعتهما إصابتيهما من لعب الكرة من جديد.

كما سبق وذكرنا أن هذا الحادث وقع عندما كان مانشستر يونايتد في طريق العودة من يوغوسلافيا، حيث تعادل مع النجم الأحمر في عودة ربع نهائي دوري الأبطال بنتيجة (3-3)، وبذلك عبر لنصف النهائي ليواجه ميلان الإيطالي.

لم يتبق من صغار باسبي بعد الكارثة إلا مجموعة من الفريق الاحتياطي قادها الويلزي جيمي مورفي أمام الروسونيري، وفي مباراة الذهاب استطاعوا الانتصار في الأولد ترافورد بنتيجة (2-1)، لكنهم لم يصمدوا في الإياب على السان سيرو وخسروا برباعيةٍ نظيفة، فودع أبطال الشياطين الحمر المسابقة بمجموع نتائج (5-2)، وفي نهائي البطولة انتصر ريال مدريد على الفريق الإيطالي بنتيجة (3-2)، وذلك بهدف خينتو الذي أحرزه في الدقيقة 107.

كان مانشستر يونايتد هو المرشح الأول لحصد دوري الأبطال في موسم 1957-1958، وكان دائماً ما يعرف بأنه الفريق الأقوى في أوروبا، وحتى أنه استطاع الانتصار على ميلان في ذهاب نصف النهائي باحتياطي الفريق، فماذا كان ليفعل لو واصل باسبي وصغاره المسابقة حتى النهاية؟

كان لريال مدريد موقفاً مشرفاً بعد الفوز بالكأس الأوروبية للمرة الثالثة على التوالي، حيث قام رئيس النادي وقتها “سانتياجو بيرنابيو” بإهداء اللقب لضحايا الكارثة وناداهم ب”أصدقائي في ميونخ”، وعرض التنازل عن الكأس للشياطين الحمر، لكن الإدارة رفضت رفضاً قاطعاً وشكرت أسطورة الملكي كلاعب ومدرب وإداري.

لم يكتف رئيس البلانكوس بهذا بل فعل الكثير، مثل أنه قام بعرض أفضل لاعب في العالم وقتها ألفريدو دي ستيفانو على اليونايتد على سبيل الإعارة وتكفل بدفع نصف راتبه، لكن الصفقة فشلت في اللحظات الأخيرة بسبب رفض الاتحاد الإنجليزي لها، لأن الأسطورة الأرجنتيني كان سيحل محل لاعباً واعداً في فريق الشياطين الحمر.

تواصلت أعمال سانتياجو بيرنابيو العظيمة، وقام بطباعة شارات كتب عليها “أبطال الفخر” إشارةً لضحايا ميونخ، وبيعت في مدريد من أجل تمويل الفريق الإنجليزي مادياً، كذلك نظم رئيس الميرينجي وقتها مجموعة من المباريات الودية بين الفريقين، وكان ريع المباراة الواحدة قد يصل إلى 12 ألف جنيه إسترليني، فكان الأسطورة المدريدية يقول لإدارة مانشستر يونايتد “ادفعوا لي ما يمكن لخزائنكم تحمله، واحتفظوا بالباقي”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى